مُقدمة
لا تستغرب عزيزي القارئ مما سيتم سرده ...فقد حدثت تلك الأحداث
والمواقف منذ ما يزيد على عقدين من الزمان....و ربما بدت لك مشاعر ساذجة وبسيطة،
مقارنة بما يحدث الآن في المرحلة الجامعية... لا تستغرب..فحين ذاك كانت المشاعر
أبسط و أعمق ، حين كان الشباب رجال صغار والشابات نساء ، يحار الشعراء في وصفهن....
......
كاريزما
الزمان:
.. في شهر يونيو...أواخر التسعينيات
كان
اليوم هو اليوم الأخير من امتحانات آخر العام ..
لم
يكن اليوم مثل أي يوم، بل كان اليوم الأخير في سنة التخرج.. تضاربت واختلطت
المشاعر كثيراً .. كلٌ حسب شخصيته و تكوينه النفسي واختلطت الأصوات:
- يا
جماعه هنتقابل في ( ماك) كمان ساعة .. مين جاي؟
- معلش والله ما اخدتش إذن منهم
في البيت!!
- طبعاً جايين!!
- يا عم سيبك منها... هتلوي لسانها بأسماء اكلات
أجنبي وأنا كل اللي معايا اتنين جنيه!!!
-كان نفسي آجي معاكم بجد بس راجعه المنصورة النهاردة و...
- يا بنات أنا عربيتي فاضيه
مين جاي؟
-هو الواد ده أمتي هيسترجل
و يركب ولاد معاه ؟
- الظاهر العربية ما بتدورش
إلا لو فيها حريم!
لم يكن الهاتف المحمول
منتشراً انتشاراً واسعاً كما هو الحال الآن و لم يكن هناك أي وسيلة لتسجيل
الذكريات سوى التقاط الصور الفوتوغرافية من كاميرات عادية تماما بالإضافة إلى
توقيع "الأوتوجرافات" حيث دأب الجميع فتيان وفتيات على كتابة بعض السطور
والأمنيات لبعضهم البعض على سبيل الذكرى...
- وقفت ثلاث فتيات على
استحياء في أحد الأركان..وبدا عليهن أنهن كُن مُنخرطات في جدل وأخذ و رد .. لم
يكُنَ على درجة من الجمال أو الغنى أو الشهرة بين الطلاب...بالكاد يمكن تذكر أسمائهن
.. كانت مازالت الطبقات الاجتماعية والفوارق بينها واضحة آنذاك وبالطبع كُنَ ينتمين
إلى الطبقة الكادحة وربما كان ذلك هو السبب وراء انعزالهن وعدم انخراطهن في أي
مجموعة أو (شلة) طوال
العام .. انفصلت إحداهن بشكل مُباغت و توجهت نحو (م) ... أجمل وأشهر فتيات الدُفعة !! وقالت بصوت مُنكسر ولا يَكاد يُسمع: هو أنا ممكن أتصور
معاكي؟!
- لم تكن (م) فتاة عادية
..فقد كانت والدتها إنجليزية ورثت عنها (م) الشعر الأشقر والعيون الزرقاء والأهم من ذلك: لكنة بريطانية لا تخطئها
الأذن بالإضافة إلى الثراء الفاحش بمقاييس ذلك العهد.. دائما ما كانت تحاول (م)
إخفاء تلك الصفات الأرستقراطية، ولكن هيهات فكما يقول المثل الشعبي: (الهيبه
فضاحه) وفي حالة (م) كان الأمر يفشل فشلاً ذريعاً: فالهيبه والجمال واللكنة
البريطانية أيضا فضاحة!!! بل كثيرا ما كُنتُ أقاطع حديثها لتصحيح نطق الكثير من
الكلمات العربية...
- كررتها الفتاة مرة أخرى
بصوت أعلى: هو أنا ممكن أتصور معاكي؟!
- التفتت (م) سريعاً إلي
الفتاة وقالت:
- -طبعا يا حبيبتي نتصور مع
بعض!!
نظرت الفتاتين إلى بعضهما
البعض غير مُصدقات ..تقدمتُ نحوهن وتناولت الكاميرا عتيقة الطراز من الفتاة وقلتُ لها
مشجعاً: أنا هصوركم وبالفعل التقطت لهما صورة جيدة .. تقدمت الفتاتان بدورهما و
قالت إحداهن: ممكن يا (م) نتصور معاكي إحنا كمان ؟ معلش والله مش قد المقام بس
والله بنحبك جداً ونفسنا نكلمك من سنة أولى!!!!
- بدت (م) كما لو كانت تبذل
مجهوداً غير عادي لتبدو على ما يرام وما أن ذهبت الثلاث فتيات بعيداً حتى سقطت (م) على
الأرض في حالة من التشنج والبكاء الهيستيري.. صرخت بأعلى صوتي على باقي الفتيات في (الشلة)
ليساعدن (م) وبالفعل جرى الجميع نحوها فمنهن من رشت في وجهها
العطر ومنهن من جاءتها بكوب مياه ....حتى أفاقت... لم تفصح (م) لهن عن سبب تلك الحالة..
أوعز الكثيرات منهن ذلك إلي الطقس الحار... و بعدها بأشهر قليلة التقت"
الشله" مرة أخرى ... انتهزت الفرصة وانتحيت بـ (م)
جانباً و سألتها عن سبب تلك الحالة..
فقالت: أول مرة أحس أن
الجمال ده نقمة.. الناس بتستصعب التعامل معايا.. شوفت جايين يترجوني إزاي عشان
يتصوروا معايا ؟ هو أنا مين أصلا ؟؟؟
!!! قلت لها مازحاً : إنتي (م) .... خدي الموضوع ببساطه... كل واحد في الدنيا وليه رزق وإنتي جزء كبير من
رزقك في شكلك وكاريزمتك... يكفي انك مش مُتكبرة ولا مغرورة و ده سر حُب الناس
ليكي.. تأكدي لو كنتي مغرورة وشايفه نفسك ..ما كانش البنات دول فكروا يتصوروا
معاكي أساساً... ربنا يحبب فيكي خلقه ويجعل القليل في إيدك كتير...
- استنى يعني ايه
الكلمات" القليل كتير دي"؟ شكله عكس بعضه ليه كده!!!
ضحكت
كثيرا لقولها وبدأت في تصحيح النُطق و شرح معنى الدعاء....
تمت
ملحوظة: عادت (م) إلي إنجلترا في
فترة لاحقة والتحقت بالعمل في إحدى الهيئات الدبلوماسية .. وهي مُنفصلة ومعها أبن
واحد حالياً.
ليلة حزينة
الزمان... آخر يوم في الامتحانات
- كانت المادة سهلة نسبياً،
من نوعية المواد التي تشعر أنها مُقحمة على السياق العام لباقي المواد... مادة
إنشائية باللغة العربية... كان القيظ شديد في ذلك الصباح وكأن الشمس لم تغرب طوال
الليل...
- وقفت مع باقي الزملاء في انتظار أن تُفتح قاعات
الامتحانات.... دقائق معدودة وظهرت مجموعة من الزميلات مُتشحات بالسواد.. اثنين
منهن يساعدن (و) التي كانت من أكثر الزميلات لطفاٌ و بساطة.. هَرعْتُ إليهم مع
باقي الزملاء ... أفادت إحداهن أن والدة (و) توفيت فجر ذلك اليوم... أصر كبار
الأسرة على أن تذهب (و) إلى الامتحان حتى لا ترسب في تلك المادة فما حدث قد حدث
وعدم ذهابها للامتحان لن يغير من الأمر شيء.. ما أن أتمت الزميلة تلك العبارة حتى
وقعت (و) مغشيا عليها... ساعدت الفتيات في إفاقتها..
وأجهشت (و) في موجة أخرى
من البكاء... شردت بذهني : كيف لتلك المسكينة ان تجتاز الامتحان في تلك المادة وهي
بالكاد ترى أمامها ؟ دقائق و فُتحت قاعة الامتحان.. كنت أقرب المقاعد إلى
(و) ولحسن الحظ كان المراقب من قسم آخر من كلية أخرى.. لم تكن مادته الأساسية..
وسأل بعض الفتيات عن حالة (و) ... أسهبت الفتيات في سرد قصة الوفاة... لا أعرف إن
كانت الفتيات قد طلبن منه ذلك أم أن إنسانيته وتعاطفه هما ما دفعاه لذلك .. فقد
مضى ما يقرب من ثلث ساعة ولم تكتب (و) اسمها على الورقة حتى.. كانت في حالة وجوم
شديد وكأنها فاقدة للذاكرة لم تردد سوي كلمة واحدة طوال الوقت: الله يرحمك يا أمي ...!!
- اقترب المراقب منها
وسألها إن كانت تستطيع أو تتذكر شيئا من تلك المادة ؟ رفعت (و) عينيها إليه في
ضراعة وأجابت بالنفي...
- وكأن القدر قد تدخل أخيرا ليرفع المعاناة عن تلك
المسكينة... كان المراقب شخصية مهيبة لم يبدي أي بادرة تدل إن كان سيسمح لأي منا
بمساعدة تلك المسكينة... قال كلمات مقتضبة: سأدخن سيجارة أمام باب اللجنة وحذار أن اسمع
صوتا... وفجأة سألني بشكل مباغت: شكلك حالل ومقفل المادة ... تقدر تساعدها ؟ تكتب
بس اللي يعديها في المادة دي .. يكفيك أد ايه ؟ ٢٠ دقيقة كويس؟
- أجبته غير مصدقاً: ولو
ربع ساعة كفاية أوي .. ألف شكر لحضرتك..
- وما أن أعطاني ظهره
متجهاً إلى باب القاعة حتى تناولت ورقتها،، فقد كنت من ذلك الجيل والذي كان مدرباً
على كتابة و تبييض المحاضرات الطوال دون كلل أو ملل تماماً مثل الجيل الحالي الذي
يجيد الكتابة على هواتفه النقالة بالساعات دون ملل أو كلل!!
كان على تغيير صيغة
الإجابة حتى لا تبدو متطابقة مع إجابتي الأصلية.. وتحوير الخط قليلا وبالفعل قمت
بإمالة الورقة قليلاً و شرعت في الإجابة و بالفعل لم أكف عن الكتابة إلا بعد أن أجبت
على جميع الأسئلة بما يجعلها تنجح في تلك المادة..دلف المراقب بعد حوالي٢٠ دقيقه
صارخا بشكل تمثيلي مُفتعل : الصوت.. اللي خلص يسلم ورقته..
نظر إلي ولكن دون كلام..
هممت بتسليم الورقتين فأشار إلي : كتبت الاسم ورقم الجلوس ؟ تذكرت أني لم اكتب ذلك
في ورقة (و) سألتها وبصوت خافت ماهو رقم جلوسك واسمك بالكامل.. وبالفعل دونتهم و
بنفس الخط.. جمع المراقب أوراق الإجابات قائلاً: بالنجاح إن شاءالله..
غادرت القاعة .. ساعدت
الفتيات (و) على النهوض.. شكرنني جميعاً..رددت قائلاً: معملتش حاجه.. أقل
حاجه والله.. ربنا يصبرك يا (و) تحبي أوصلك معاهم للبيت ؟؟ ردت بالنفي و شكرتني كثيراً، وانطلقت سريعاً للحاق بـأتوبيس
النقل العام للعودة لمنزلي...
تمت
ملحوظة: آخر ما أعرفه عن
(و) أنها تزوجت وأنجبت و لم تعمل قط...
إقرأ أيضا: ثُلاثية القهر - ثلاث قصص قصيرة
إقرأ أيضا: الورد والضابط وعيد الحب
_____
الحب اللي كان
لم تكن (س) فتاة عادية..كانت
بسيطة وذات جمال هادئ.. لا تُجيد التعبير عن مشاعرها .. وكانت عملية إلى
حد كبير.. لم تكن معنا في نفس القسم ولكن كانت صديقة مُقربة
( لأنتيمتي) أو زميلتي وصديقتي المُقربة بالتعريف الحديث.. وهي من عرفتني عليها..
ما أن تواترت اللقاءات بيننا حتى تولدت أول شرارة حب من جانبي ...
استغرق الأمر مِني أشهر
طويلة قبل أن أستطيع الإفصاح عما أشعر به تجاهها ووفقاً لقواعد التعارف آنذاك فقد
لعبت انتيمتي دوراً كبيراً، فلم تكن وسائل التعارف مُتاحة كما هو الحال الآن فلم
يكن هناك وسيلة سوى الهاتف الأرضي وما يحمله ذلك من مخاطر بالإضافة للوسيلة
الكلاسيكية الأشهر وهي كشكول المحاضرات...
وكما كانت الموضة أو
(الترند) آنذاك فقد كان الطلبة يتبادلون الحضور في محاضرات بعضهم البعض على اختلاف
كلياتهم و مجالاتهم.. و كم كنت أسعد كثيراً بتلك الزيارات المُتبادلة.. و كان
علينا بالطبع تعويض ما فاتنا من محاضرات.. حقيقة لا أعرف كيف كنت أستطيع التوفيق
بين العمل والدراسة وحضور المحاضرات سواء العملية او النظرية و حضور كورس مُكثف في
اللغة الألمانية ليلاً!!؛ وفوق ذلك الظهور والتواجد في حياة (س)... كم كان يسعدني
مرافقتها بالمواصلات العامة إلى منزلها.. كان لعب دور (الجنتل مان) يستهويني حين
أفسح لها الطريق أو افتح لها باباّ أو استأذن شخصاً ما لتجلس هي بينما أقف أنا
بجوارها نتحاور بالنظرات فقط!!! مرت الأربع سنوات سريعاً امتزجت فيها لحظات الحب البريء
بالقلق من الفراق، فلا توجد أي ضمانات لدي سوى وعد صادق غير مكتوب أن أتقدم لها
بعد التخرج... كانت من الطبقة المتوسطة مثلي تماماً.. وكانت يتيمة الأب، بالكاد
يكفي معاش والدها الراحل مصاريف تعليمها هي وأخواتها.. كثيرا ما رددت والدتها
رغبتها في تزويجها لرجل ميسور الحال.. حتى تستطيع التفرغ لتربية باقي الأخوات...
مررت بالاختبار الشهير:
"ماما عايزة تقابلك" وبالفعل تقابلنا جميعاً ومعنا حمامة السلام (انتيمتي) وأعتقد أنني قد تركت
انطباعاً جيداً لدى الأم وان لم يكن لدي وظيفة مضمونة أو حتى شقة إيجار...مرت السنوات الأربع سريعاً جداً وجميعها بتفوق ..
هاتفتها ذات مرة:
- ألو... الحمدلله لله
الدفعة كلها أخدت تأجيل للجيش..
- لا إن شاء الله محدش فينا داخل...
- خلاص بقدم على شغل في كذا
شركة وربنا يسهل...
- خير مالك مش متحمسة ولا
فرحانه يعني..
-وجاءني الخبر الصاعق: جالي عريس مناسب ... ماما وعمي واخدين
قرار خلاص ..
- طب وانتي ؟
--مش عارفه.. أنت لسه قدامك
سنين كتير... وووو...
تلت تلك المكالمة
الهاتفية ، سلسلة من الحوارات والاستعطافات ..لعبت (انتيمتي) دورا بارزاً فيها
ولكن يد القدر كانت اقوي من يدي.... أفلتُ (س) من يدي ومرت السنوات... وقد
كانت على حق: استغرق مني الأمر عشر سنوات حتى استطعت (تكوين نفسي) ومع مرور الزمن
لم أصبح ذلك الفتى الحانق الذي خسر حبيبته ... وظهر تطبيق (الفيسبوك) ..كنت من
أواخر المُنضمين إليه واستشرت فتى حديث الالتحاق بالمؤسسة التي أعمل بها وسرعان ما
أنشأ لي صفحة شخصية وبحث عنها بل وعثر على حسابها... وبدافع الفضول فقط عما فعل
الزمن بها وبعد تردد كبير،، فعلتها...
أرسلت إليها رسالة خاصة..فتحت المحادثة...
لم اشعر سوي بدقات قلبي.
ليس بدافع الحب وإنما الفضول والخوف من ردة فعلها ..
- ازيك يا (س)؟
- الحمدلله بخير وانت ؟
- الحمدلله بخير...
- عامله ايه في حياتك؟
-.....
كانت
صورة (البروفايل) لها مع عائلتها . لم تكن فتاتي التي أحببتها...اختفى سحرها
ولمعان عينيها واشعار نزار قباني وفاروق جويدة وأغنية الحب اللي كان لميادة
الحناوي.. تغيرت ملامحها و زاد وزنها، كانت تقف بجوار أبنائها،، منهن فتاة في
مُقتبل العمر تشبهها عندما كانت في نفس السن تقريباً...
اطمأننت
عليها فكلانا قد تزوج وكلانا قد أنجب ومرت بنا السنوات .. لم يكن هناك أي ضمانات
بأن حياتنا معا ستكون سعيدة... وكان للقدر قول آخر ..
تبع
ذلك الحوار البسيط حظراً قاسياً او بلغة العصر( البلوك) الشهير وجعلت الوصول إليها
صعب المنال كما كان .. نسيتها تماماً و مرت السنوات وها أنا أكتب عن حبيبه بالكاد
أتذكر ملامحها بعد أن مر أكثر من ربع قرن على قصة الحب تلك.
تمت
ملحوظة: أنتظر ردة فعل
غاضبة من "انتيمتي" بعد النشر... فهي من قارئاتي العزيزات المتميزات وما زلنا على تواصل
إلى الآن بحمد الله.
إقرأ أيضا: ثُلاثية القهر - ثلاث قصص قصيرة
إقرأ أيضا: الورد والضابط وعيد الحب
People also search for
تعبير عن الحياة الجامعية
عبارات عن الحياة الجامعية
الحياة الجامعية PDF
تجربتي في الحياة الجامعية
سلبيات وإيجابيات الحياة الجامعية
تعبير عن الحياة الجامعية باللغة الانجليزية
الحياة الجامعية وتكوين الذات وبناء المستقبل
أهمية المرحلة الجامعية
تعليقات