قصة دموع التماسيح – ست الحسن
كم تمنيت ان يتوقف ذلك القس البريطاني عن تلاوة تلك الصلاة الجنائزية, كان صوته رتيباً ولكنته الايرلندية ثقيلة الوقع علي النفس والأذن حتى النصف الآخر من الصلاة كان باللغة اللاتينية, علي الرغم من أن الحاضرين كان معظمهم مصريون و قليل من السويسريين اللذين يعيشون في مدينتنا الصغيرة علي ساحل البحر الأحمر.
بالكاد فهمت انه يطلب من الحضور إلقاء نظرة الوداع علي المتوفاة.. لم يتحرك إلا ابنتها وحفيد المتوفاة وصديقته الشقراء وأنا و بعض النسوة العجائز سويسريات الجنسية و ما أن وقفتُُ أمام الجسد المسجي حتى ترائي لي أن المتوفاة تحدثني.. لا اعرف كيف و لكن كل ما شعرت به أنها تقول لي بلهجة سويسريه مميزة : الوفاة ليست كما يظن الآخرين..
كنت اعرف أنني متعب فمنذ حدثت الوفاة, فقد كان هناك الكثير لانجازه ولكن لا يمكن أن يصل بي الإرهاق إلي حد تخيل أشياء مثل تلك... ربما أن عقلي الباطن هو الذي اظهر عدم اقتناعي بظروف الوفاة ؟؟
منذ سنوات بعيدة تعرفت بتلك السيدة السويسرية, شخصية آسرة يليق بها أن تكون سيده أعمال ناجحة فهي من ذلك النوع قوي الشكيمة و الذي يعرف من أين تؤكل الكتف و كيف تصل إلي مرادها و شيئا فشيئا تعمقت صداقتنا وعرفت أنها منفصلة عن زوجها السويسري الجنسية و لها منه ابن في سن الشباب, و أن علاقتها بطليقها مازالت قويه يشوبها التحضر و الاحترام المتبادل و أنها جاءت لتقيم في مصر نظراً لظروف صحية متعلقة بوالدتها ,,, و منذ زيارتي الأولي لها في منزلها الجديد علي ساحل البحر الأحمر,, عرفت أن الأمر ليس كما قد يعتقده البعض فوالدتها المسنه مريضه بالزهايمر و لا احد ليعتني بها سواها.. لفت نظري أيضا أنها تعمل منذ الصباح الباكر و حتى ساعات متأخرة من الليل في كل شيء تقريبا, فلديها مشروع في سويسرا تتابع إدارته من مصر كما أنها وجدت شركاء مصريين في وقت قياسي وافقوا علي مشاركتها في مشروعاتها المتعددة في مصر كما انه بمرور الوقت و نظرا لشخصيتها الآسرة فلقد كونت شبكه واسعة من الشخصيات الشهيرة بالبلدة الساحلية الصغيرة واللذين ساعدوها كثيرا في مشروعاتها المتشعبة و لكن ما لفت نظري أيضا هو تمسكها بعملها الأصلي كمترجمه للغة الألمانية و كل ماله علاقة باللغة الألمانية, فهي تقوم بتدريس دورات اللغة الألمانية المكثفة و تقدم الشرح عن طريق "سكايب" كما تقوم بنشاط الترجمة لعملاء من كل أنحاء العالم..رغم ان مشروعاتها تدر عليها دخلا أكثر من نشاط الترجمة بكثير... و من آن لأخر كنت أزورها في بيتها و خاصة عندما تتدهور حالة والدتها و ذلك فقط عندما لا يتوافر آياً من أصدقائها و معارفها المصريين الآخرين...
ولكن بما انه دائما ما تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن فقد مرضت صديقتي السويسرية مرضا شديدا وشرساً و يحتاج إلي علاج طويل المدى وهو نوع من أمراض الغدة الدرقية التي تتحور بشكل ورمي يؤثرعلي الحلق والاحبال الصوتية, كما يؤثر بشكل كبير علي الحالة المزاجية و العصبية و علاجه الكيمائي أيضا له تأثير جانبي كبير علي الصحة العامة و الحالة الذهنية و العقلية و النفسيه...
في الوقت الذي تدهورت فيه حاله أمها بشكل كبير و سريع فالأم المسكينة بدأت بفقد حواسها الواحدة تلو الاخري كما أنها في نوبات مرض الزهايمر كانت تنتابها أعراض كثيرة .. كثيرا ما كانت صديقتي تضطر إلي قطع اتصالها أثناء إلقاءها لمحاضرة عبر سكايب أو مؤتمر ما, من اجل ان تساعد والدتها.
تدهورت حاله صديقتي بشكل كبير ونظرا للحالة المتدهورة و لمستوي الأطباء الغير مُرضي في مدينتنا, اضطرت للسفر إلي القاهرة لإجراء الجراحة و في رأيي الشخصي, هناك حدث التحول الخطير و الحاد في شخصيتها , فالطبيب لم يكن لدية الدراية و الخبرة الكافية لإجراء مثل تلك الجراحة الخطيرة وزاد الأمر سوءاً ان جسدها و عقلها كان يرفض التخدير فهي مازالت واعية جسداً و عقلاً فما كان من الطبيب إلا انه زاد من جرعه المخدر وعقلها مازال واعياً و عيناها رفضتا الاستسلام بدأت الجراحة و ما أن أعمل الجراح المشرط في رقبتها, حتى صرخت بصوت متحشرج و بارتياع, حاول الجميع تهدئتها وإعادتها لحاله التخدير و فشلت كل المحاولات كما فشلت العملية الجراحية ذاتها فحدث لها نزيف و هبوط حاد في الدورة الدموية... صرخ الطبيب طلبا للمساعدة و حدث هرج و مرج إلي أن تم اعاده خياطه الجرح دون إجراء العملية: و علي حد قول صديقتي : حين ذهبت للاطمئنان عليها: "حدث لي شيء لا أتمني حدوثه حتى لأسوأ أعدائي".
عادت إلي مدينتنا و بدأت تتواصل مع اشهر الأطباء في بلدها وهو متخصص في ذلك النوع من الجراحة, حيث يمكنه إجراء جراحه ملاحيه متقدمه تستطيع فصل الورم عن الاحبال الصوتية وإعادة التضخم في الغدة الدرقية تدريجياً إلي النسب المعقولة و لكن تظل المشكلة قائمه من سيعتني بالأم مريضه الزهايمر ؟؟ فهي لم تعد تسمع أو تري بعد ان فقدت حاسة النظر و السمع كما أنها اذا تذكرت لا تتحدث إلا الألمانية.. حاولت و كثير غيري من الأصدقاء البحث عن دار متخصصة لرعاية المسنين او مستشفي يقبل رعاية تلك الحالة فقط إلي حين عوده صديقتي من العملية الجراحية و لكن دون جدوى حتى فكرة إحضار راعيه مصريه لتقيم مع الأم باءت بالفشل فالكل يأتي طمعاً في المال لكن بالتجربة العملية تبوء كل المحاولات بالفشل فالمهمة شبه مستحيلة..
بدأت حاله صديقتي تتدهور ثانيه ... اتصلت بي ملتاعة في يوم طلبا للمساعد فوالدتها قد وقعت علي الأرض و شجت رأسها و هي لا تعرف كيف تتصرف.. استغربت من الأمر لان الأم المسكينة شبه مقعده و لا تتحرك إلا بكرسي متحرك كيف لها أن تسقط تلك السقطة...
تكررت الأزمات و تكررت الزيارات مني و من غيري و الوقت يمضي ببطء و حان موعد إجراء العملية الجراحية ولا يوجد بارقة أمل في العثور علي شخص للمساعدة , متخصص في رعاية مرضي الزهايمر... إلي أن جاءني اتصال تليفوني في ساعة متأخرة من الليل تخبرني فيه صديقتي أن والدتها قد توفيت !!! كان صوتها ثابتاً و هادئاً في نفس الوقت.. انطلقت بسياراتي و أنا أكاد لا أري الطريق ليس فقط لضعف بصري ليلاً و لكن أيضاً لعدم تصديقي واقتناعي,, فالسيدة المسنه كانت علي ما يرام عندما زرتهم أخر مرة..منذ يوم واحد فقط...
كنت اعرف أيضاً أن ابن صديقتي و صديقته الشقراء قد أتيا من سويسرا للمساعدة بشكل أو بأخر..
لا ادري كيف تم انجاز كل شيء بتلك السرعة فعندما وصلت كان قد تم استخراج تصريح بالدفن لا ادري كيف أو كيف وقع طبيب الصحة علي تصريح الدفن بتلك السرعة و لا كيف في تلك الساعة المتأخرة من الليل. كنت اعرف أن لديها الكثير من المعارف و الصلات و انه من احد عيوب مدينتا الساحلية أن معظم الهيئات الحكومية تدار بالمعارف و العلاقات الشخصية...
وجدتها هادئة كالعادة كانت تدخن بشراهة, قدمتني لابنها و صديقته الشقراء .. رأيت الجسد المسجي في غرفه النوم بهدوء, حكي لي الابن بعد ذلك كيف صرخت أمه:
- توماس, توماس, جدتك تموت الآن.. تعالي .
نزل الابن و صديقته في ارتياع من الطابق العلوي للفيلا عبر السلم الداخلي ليجد جدته تعاني سكرات الموت علي الاريكه و هي لا تسمع او تري من حولها... فقط تتألم.
- فقط اِمسك يدها بإحكام حتى يمر الأمر بسلام.
تعجب الشاب من قوة ضغطه يد جدته كيف يمكن ان تضغط تلك السيدة العجوز التي جاوزت الثمانين علي يده بتلك القوة.
صرخت صديقته الحسناء في ارتياع مكتوم و... صعدت الروح إلي بارئها.
تعجبت كثيرا و إن لم أصرح: كيف لصديقتي أن تترك والدتها في لحظاتها الأخيرة و تصعد إلي غرفتها؟؟ ما هو الشئ الهام الذي كانت تبحث عنه؟؟ و كيف يعمل عقلها بمثل ذلك التركيز العالي في لحظات كهذه؟
ما هي إلا ساعات قليله حتى أشرقت الشمس بنور ربها, كان بقية الأصدقاء قد اعدوا لكل شيء عدته, و ها نحن نخرج من الكنيسة الصغيرة و يحمل البعض النعش ليتم دفنه في هدوء و سلام في المقبرة الصغيرة الملحقة بالكنيسة.. وشردت بذهني و تذكرت نقاشاتنا حول القتل الرحيم و إنكارها لوجود الله بشكل عام, تذكرت أيضا عندما كنت ما ابعث لها بالرسائل عبر: الوات ساب" أنني دائما ما اصلي من اجل حل سريع لمشكلتها هي و والدتها وكان يأتيني الرد الساخر:
- وفر صلواتك لأنها مشكلة ليس لها حل, ألهه الإغريق أجمعين لا يستطيعون حل تلك المشكلة.
تذكرت تلك النظرة الشاردة عند عودتها من العملية الجراحية الفاشلة في القاهرة و قولها بأنها لابد أن تحسم الأمر.. كما تذكرت أيضا عندما سألتها عن ذلك البحث الطويل الذي كانت تقراه عن نبات البلادونا او ست الحسن او ما يعرف علمياً باسم Atropa belladonna حيث ذكرت بالحرف : أنها تجمع معلومات عن النباتات لأنها بصدد ترجمة بحث علمي و تحتاج لمسرد المصطلحات.. كنت اعرف انه نبات سام و التركيزات العالية منه تقتل ..
صرخ شيطاني في أذني بصوت مجسم ثلاثي الأبعاد:
- لقد قتلت أمها قتلاً رحيماً لتنقذ ما تبقي من عمرها هي,, و لا يوجد لدي الإنسان اقوي من غريزة حب البقاء و هي قد شاهدت الموت بعينها في العملية الجراحية الفاشلة ,, ما الذي يزعجك أنت ...؟؟
و كعادة الأوروبيين كان لابد من العودة من الكنيسة إلي المنزل لتناول وجبه مع أسرة المتوفاة وما أن هممت بالدخول من باب حديقة الفيلا حتي توقف الزمن و لمحت بطرف عيني نبات البيلا دونا بشكل أوراقه المميزة و ثمرته عنبية الشكل نقلت بصري بين الشجيرة الصغيرة و بين صديقتي التي كانت ترتدي فستانا قصير اسود فوق الركبة و تضع نظارة سوداء كبيرة تخفي بها نصف وجهها بينما تهم بأن تخلع القبعة السوداء انيقه الشكل بينما حلقَ في الهواء ببطء ,, شريط ملحق من نوع التُل الأسود و هي تتنفس الصعداء بينما تدلف إلي منزلها بثقة و تؤده ...
تمت
إقرأ أيضا: ندبات الروح - ثلاث قصص قصيرة
إقرأ أيضا: ثلاثية القهر - ثلاث قصص قصيرة
إقرأ أيضا: خروج آمن لجثة عم فوزي
شارك الموضوع وتابعنا على الفيسبوك (عوالم منسية) أو تويتر أو اشترك بالقائمة البريدية ليصلك كل جديد على بريدك |للتعليق: اضغط على "إضافة/إرسال تعليق" أسفل المقالة |
للمراسلة: enbee.info@gmail.com
ما هو سبب دموع التماسيح؟
ما معنى مثل دموع التماسيح؟
هل تبكي التماسيح على ضحاياها؟
كيف يبكي التمساح؟
لا تغرنك دموع التماسيح
دموع التماسيح التي يضرب بها المثل هي في الحقيقة ليست دموعاً، لماذا
دموع التماسيح شعر
مسلسل دموع التماسيح الحلقة 1
متى يقال مثل دموع التماسيح
دموع التماسيح بالانجليزي
متلازمة دموع التماسيح
دموع التماسيح كلمات
تعليقات