الحياة الأخرى - قصة حقيقية



لا اعرف ما الذي دار في ذهن الطبيب في تلك اللحظة ولكنه تبادل نظرة مستغربه مع مساعده و :كأنه كان يتوقع رد فعل أكثر عنفا من رد فعلي , فالنتيجة معروفة لي منذ ما يقرب من عام و لكن هذا الطبيب قالها بشكل مباشر: فشل عام في معظم الوظائف الحيوية بالجسم و لم يعد لدي إلا حوالي ثلاثة اشهر..

كنت اعرف ذلك منذ عام و إن كررت استشارة الأطباء المتخصصين و دائما ما كانت تأتي نفس التحاليل والأشعات المختلفة بنفس النتيجة..المشكلة ليست في انا.. فقد سلمت أمري لله و تأقلمت علي الوضع المؤقت الجديد الذي أعيش فيه المشكلة الحقيقة هي أمي فهي لا تريد أن تستسلم للأمر الواقع و لا للقدر بل تعدت حدود المقاوم الي حد رغبتها في تزويجي.. لن انسي نظرتها المستعطفة لي : إذا كنت ستتركنا فعلي الأقل لا تحرمني من أن يكون لي حفيد منك اترك لي شيء من ريحتك.. شيء يذكرني بك.

 قاومت رغبتها واستعنت بكل ما أوتيت من صبر و حجه في الإقناع فلم يفلح معها ذلك, استعنت بأخوالي عليها فلم يزيدها ذلك إلا عنادا .. جندت جيشا من نساء العائلة يجوب قريتنا و القرى المحيطة أيضا سعيا وراء خطبة عروس لي..

 و لكن الأخبار تنتشر أسرع من نسمات الهواء فمعظم بيوت قريتنا بل و بلدتنا يعرفون بقصة مرضي و انه لم يبق لي في الحياة إلا اشهر معدودة.. ثم ما ذنب تلك الفتاة المسكينة في أن يرتبط مصيرها بإنسان ميت؟؟ أيا كانت المغريات من ميراث أو الانتساب لأحدي كبري العائلات في صعيد مصر فالمسكينة التي ستتزوجني لن تترمل فقط بعد فترة قصيرة من الزواج و لكن أيضا طبقا للتقاليد لن تتزوج بعدي فالا رمله عندنا من العار أن تتزوج مرة أخري... لم يكن أمامي خيار آخر سوي الإذعان لرغبة أمي المحمومة في قبول ذلك الزواج المزعوم علي أمل أنني لن أجد من ترغب في ربط مصيرها بمصيري.
شردت بذهني كثيرا و القطار ينهب الأرض نهبا في اتجاه بلدتنا... لم اعد اعرف إذا كنت قد بكيت مرة أخري أم لا فبكائي تطور بشكل كبير مع حالتي الصحية ففي البدء كنت ابكي من الألم العضوي الشديد ثم أصبحت بعد أن عرفت حقيقة مرضي ابكي حزنا علي ما ضاع من عمري القصير نسبيا ثم أخيرا أصبحت ابكي لأنني سأفتقد الحياة بشكل عام سأفتقد متعها البسيطة ...

لا اعرف لماذا تغيرت مشاعري و تقبلي للأشياء من حولي فأصبحت أري الأشياء جميعها بشكل أكثر وضوحا حتى طعم المياه أو الطعام في فمي أصبح له مذاق خاص...أصبح مجرد سماع صوت النسمات و هي تحرك أوراق شجرة التوت العملاقة قرب غرفتي له مذاق و متعه خاصة... مجرد التحديق في الموجات الصغيرة لصفحه النهر تبعث في المتعة و الإحساس بالطمأنينة... لا اعرف لماذا لم يكن للأشياء و الأصوات و المواقف نفس التأثير فيما مضي؟؟ اهو تفسير الآية الكريمة: فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد؟؟

ما أن عدت إلي منزلنا حتى قابلتني أمي بلهفة: فيه جديد؟؟ طمني؟؟
قلت لها: سيبيها علي الله هو الموت مستني ورا الباب و الا بييجي بأمر الدكاترة ؟

و داعبتها مهونا عليها الأمر و استأذنت في الصعود إلي غرفتي في الطابق العلوي.. مجرد الصف الطويل من الادويه و المسكنات و الذي يملأ نصف سطح مكتبي يبعث علي الكآبة و الحزن كنت قد توقفت عن تناول الأدوية و تناولت المسكنات فقط و خاصة ليلا لأستطيع النوم... و لم يكن يزعجني سوي صوت صرير الباب وهو يفتح علي بمعدل كل ساعة تقريبا فدائما هناك من يصعد ليطمئن ... أني لم أفارق الحياة بعد.

كثيرا ما أضيق ذرعا بوجود هذا الكم الهائل من الضيوف اللذين يأتون لمواساة أمي و زيارتي لا اعرف لماذا تتشح كل هؤلاء النسوة بالسواد رغم أنني لم أمت بعد حتى الرجال منهم دائما ما يسألونني هل صليت اليوم و قرأت القران.. هل تحب أن توصي بشيء؟ وكأنني الفظ أنفاسي الأخيرة : لماذا لا يتركونني و شأني ؟؟ما بيني و بين الله هو شاني وحدي لماذا لا يحترم احد رغبتي في الانفراد بذاتي و مناجاة نفسي و ربي بما أشاء ولماذا يتناسون أنهم أيضا أموات يسيرون علي الأرض الفارق بين و بينهم أنني اعرف متي سأموت أما هم فلا؟؟

الأيام تسير بملل كببر و الجميع إما يتحاشونني أو إما يبالغون في العناية بي بما أنني ساق في الدنيا و ساق في الدار الآخرة .. مما يؤثر علي سلبيا...
زارني اليوم أخي الأكبر هو و عائلته: داعبت اصغر أبناءه.
-          فقال لي: عمي أنت هتموت امتي؟؟

نهره أخي و هم بضربه فأنقذته من يده و سألته بهدوء:
-          و لماذا تريدني ان أموت؟؟

-          فرد في براءة و عفوية : عشان بابا قالي لما هتموت هتروح الجنه و هتجيب لي لعب كثير من هناك..

-          قولت له: بس ادخل الجنة و انا اجيبلك اللي انت عايزه.

استيقظت في الصباح الباكر علي صوت احدي خادمات الدار و هي تندفع صاعدة السلالم الداخلية للمنزل: يا حاجه : فرجت وجايبالكم البشارة.

 أسرعت أمي إليها و نساء الدار, كان ملخص الحكاية: ان ابنه الحاج محمود وافقت علي الزواج مني!!

 نزل علي الخبر كالصاعقة فقد حدث ما كنت أخشاه من قال أنني أريد الزواج أو في حاله نفسية تؤهلني للزواج؟ و لماذا وافقت ؟ ألا تعلم بحالتي الصحي؟؟؟ام رغبة في المهر الكبير و الميراث و الجائزة الكبري التي وعدت بها أمي و أزاغت بها العيون في حالة أن تنجب تلك الزوجة ذكرا مني؟؟

لم تفلح توسلاتي لامي و لا لأخي الأكبر:
-      يا حامد أنت متدين و تعرف ربنا : الزواج يجب ان يبني علي نية الاستقرار و في حالتي لا يوجد هذا الشرط فما ذنب تلك المسكينة و ما الضامن أصلا أنها ستنجب؟؟

-          الا تري حالة أمك و تمسكها بهذا الموضوع ورغبتها في ان يكون لها أحفاد يحملون اسمك؟؟

تم كل شئ بأسرع مما تخيلت فنفس الجيش الذي كان يعمل ليلا نهارا بحثا عن عروس لي فقد عمل بدأب و تم كتب الكتاب بين ليلة و ضحاها كان وكيلي هو أخي الأكبر إتباعا لتقاليد العائلة و هي وكيلها عمها لأنها يتيمة الأب و الذي رباها هو عمها.

في يوم الزفاف كان الجميع في حالة ارتباك فجميع المعازيم ينظرون إلينا في (الكوشة) نظرات غريبة:  مزيج من الإشفاق و التردد يقطعها مط و مصمصة للشفاه حزنا علي شباب العريس... أردت ان أغير تلك الحالة الغريبة من الجمود و الكآبة: فقمت الي( الدي جي) و طلبت منه أغنيه سعد الصغير (النهاردة فرحي يا جدعان)  أمسكت بالمايكروفون قائلا:

-      احلي تحية و سلام لكل الناس الحلوة اللي مشرفانا النهارده و انطلقت الأغنية وأعقبتها موجه من الرقص من جانب مجموعه من الشباب شاركتهم فيها أيضا كسرا لحالة الحزن التي كنت أراها في عين أمي رغم أنها قد حققت ما كانت تريد و زوجتني إلا أنها زاد حزنها رغم عنها لأنها كانت تتمني أن تراني في الكوشة في الأحوال العادية و ليس قبل و فاتي بأيام طالت أو قصرت.

 انتهي اليوم العصيب..  لم اشعر بشيء سوي برغبتي في النوم الشديد كنت قد تناولت الكثير من المسكنات بشكل مبالغ فيه حتى أستطيع بذل ذلك المجهود في يوم الزفاف..

ما أن أغلق علينا باب غرفتي ( التي تغيرت ملامحها بين يوم و ليله و تم طلائها و تغير الاثاث بها بالكامل بل و تم إلحاق حمام خاص بها يليق بالعروسين..) حتى لاحظت حالة الارتباك الشديد و الخوف و التردد و الكسوف من جانب العروس..

قلت لها: اطمئني لن يحدث بيننا شيء ليس فقط لأنني في حالة نفسية لا تسمح بل لأنني لا أريدك ان تشقي من بعدي.. فمحنة الترمل و تربيه طفل وحيد و يتيم ليست بمحنة سهله... اعتبري إنني لا أريد ذلك النوع من الذنوب و أني أريد أن أقابل ربي بلا مزيد من الظلم للآخرين.. فقط أريد منك أن تحققي لي أمنيتي فقد كنت دائما امتني أن اصلي بزوجتي المستقبلية ركعتين للبركة في ليله زفافنا..
 بالفعل قامت لتغير ملابسها و تتوضأ مرددة:

-           أمرك..دي كانت أمنية ليا برده...

 تعجبت من موافقتها  ومن رد فعلها عموما رغم معرفتها أنني لن المسها و لن احقق رغبة أمي بظلم فتاة لم اعرف بعد ما هي دوافعها للقيام بتلك التضحية و الزواج من شخص.. مثلي

توضأت ووقفت في موضع الإمام و هي ورائي و كبرت تكبيرة الإحرام و بدأت في التلاوة: و عند نقطة معينه لم اعد اشعر بالآيات و لا بأي شيء من حولي و لا اعرف من اين جاءت كل تلك الدموع.. لم تكن عيني هي التي تبكي و لكن روحي هي التي تبكي داخلي .. لم أكن اعلم أن الروح قد ترغب في البكاء أيضا... لا اعرف كيف أنهيت الصلاة  كل ما شعرت به هو يد (وفاء) زوجتي وهي تربت علي كتفي قائلة:

-           هون عليك... العمر مش بالسنين.. لو ده اللي مزعلك ممكن تعيش في الشهر اللي ممكن غيرك يعمله في سنه..

 لاول مرة اشعر في كلمات احد من من حولي بهذا المعني الجديد...
ما أن هدأ روعي..

 وفتحت هي شباك الغرفة ليدخل منها نسيم صيفي منعش حتي سمعنا طرقات علي باب الغرفة: أمي تصحبها احدي خادمات الدار و تحمل صينية كبيرة بها العشاء.. شكرتها العروس وقبلت يد امي و أغلقت الباب في أدب جم.. كنت أثناء العشاء اختلس النظر إلي وجهها: لفت نظري ذلك الكم الرائع ليس فقط من الجمال و لكم أيضا من السلام الداخلي بل و الرضا ... سألتها:

-          ليه قبلتي تجوزيني و أنت عارفه ... بظروفي؟؟

قالت في بعفوية و هي تهز كتفها:
-          لما سمعت بحكايتك, قولت و ليه لأ.. لو مالوش نصيب يعيش كتير علي الأقل من حقه يتزوج و يكمل نصف دينه....

لا اعرف كيف قالتها بتلك البساطة... كيف؟ ألا تعرف ما هي مقبلة عليه؟؟

 دخلت الحمام مرة أخري و أغلقت الباب خلفي بالمزلاج.. ما فائدة الحياة وما اقسي القدر فقد تزوجت بامرأة ربما تحمل لي القليل من السعادة ولكن علي ان أفارقها بعد أيام قلائل. ما فائدة المده الباقيه لي اصلا؟؟؟

لم اشعر بنفسي إلا و يدي تحل شفرة الحلاقة من ماكينة الحلاقة المعدنية... وانحنيت لأرفع ساق السروال و مددت يدي بتردد نحو سمانه ساقي اليمني..كنت بحاجه الي مكان من جسدي لا تراه امي  و ينزف قدرا مناسبا من الدم....

 ما ان جرحت ساقي حتى سارعت إلي منديل قماش ابيض جففت به الدم  يعدها سارعت بربط الجرح و خرجت إلي وفاء: قالت:

-           ما هذا؟

اعطيتها المنديل, فتناولته في جذع قولت لها:
-           بكره الصباحية.. اديه لأهلك  زيك زي أي عروس.. تعرفين التقاليد..

-           لا اريد لاحد ان ينتقدك او يوجه لك أي سؤال ... تعرفين ان الهدف من الزواج هو تحقيق مطلب امي .. و اريد ان اعفيك من الحرج.

***
في الصباح جاء من جاء لزيارتنا و التهنئة.. ما ان تلقف عمها المنديل حتى سارع بإطلاق أعيرة ناريه من مسدسه و سارعت النسوة من أهلها بإطلاق الزغاريد ....

مع مرور الأيام كثيرا ما كانت تلفت نظري.. فكلامها الراجح يعكس ثقة عميقة في قدرة الله علي تغيير أصعب المقادير و أعقدها... أقنعتني بمعاوده  تناول الدواء من باب الأخذ بالأسباب و عدم التقصير أمام الله .
مرت بنا الأيام سريعة كان دائما ما يحلو لي الحديث معها ...فقد كانت بسيطة عذبة تختار كلامها بعناية ودائما ما كانت تشعرني بأن العمر أمامنا طويل..
***

الليلة الأخيرة

في الليلة الأخيرة صليت ركعتين لله و دعوت الله ما شاء لي ان ادعوه به.. كنت اعرف انها نهاية الثلاثة اشهر ..كنا دائما ما ننام متجاورين في نفس الفراش إلا ان كل منا كان دائما ما يعطي ظهره للأخر إلا في تلك الليلة.. شعرت بيدها و لأول مرة تمتد نحو يدي و تمسك يها بقوة و كأنها هي التي تحتاج ان تتشبث بالحياة و ليس أنا.. تلوت لشهادتين و رزقني الله الطمأنينة و النعاس.

استيقظت علي صوت ابني الصغير و وفاء تحمله و تهدهده: قائلة:
-          كده هتصحي بابا احنا اتفقنا علي ايه؟؟

 كانت تحمله في رضا و حنان و في ركن الغرفة كانت ابنتي الكبري تلعب بهدوء بدمية صغيرة لها...

 مرت عشر سنوات الآن ,عرفت فيها معني السعادة الحقيقة لم اكف خلالها عن سرد تلك القصة لمن اعرفهم :قصة الميت الذي وهبه الله حياه أخري في آخر ليله له علي الأرض.

تــــمـــــت

ملحوظة: القصة حقيقة حدثت لصديق لي .. سردتها نيابة عنه مع تغيير بسيط في الأحداث.

إقرأ أيضا: جبال الكحل تفنيها المراود: قصة إمرأة أجنبية أحبت شاباً فغدر بها



شارك الموضوع وتابعنا على الفيسبوك (عوالم منسية) أو تويتر أو  اشترك بالقائمة البريدية ليصلك كل جديد على بريدك  |للتعليق:  اضغط على "إضافة/إرسال تعليق" أسفل المقالة

للمراسلة: enbee.info@gmail.com


كيف هي حياة الآخرة؟
ما معنى الحياة الأخرة؟
متى تبدأ الحياة الأخرة؟
ماذا تسمى حياة الآخرة؟
الحياة الآخرة في الإسلام
الحياة الآخرة في القرآن
الحياة بعد الموت
خرافة الحياة بعد الموت
الحياة بعد الموت عند الشيعة
مراحل الدار الآخرة
أنواع الحياة في الإسلام
لا يوجد حياة بعد الموت

تعليقات

إقرأ أيضا الموضوعات الشهيرة الأخرى

نجمات "بورنو" شهيرات يكشفن حقيقة الأفلام الإباحية –(الحلقة الأولى)

​الدب والأرنب: عبثٌ في مراحيض الغابة

رحلة إلى مدينة هامبورج ألمانيا

قصة الراهبة المصرية التي أسلمت على يد النبي محمد عام 1970

ماذا يحدث حين تقول " لا يمكن أن تسوء الأمور أكثر من ذلك"؟

مخرج "بورنو" شهير يكشف حقيقة الأفلام الإباحية – (الحلقة الثالثة)

معنى الصديق اللدود: كاريكاتير الذئب الحكيم والخروف الحزين

مخرج "بورنو" شهير يكشف حقيقة الأفلام الإباحية – (الحلقة الأولى)

ما هي الجمارك المستحقة على شيفروليه كروز موديل 2012 سعة 1600 سي سي؟

مخرج "بورنو" شهير يكشف حقيقة الأفلام الإباحية – (الحلقة الرابعة)