السر الدفين : قصة من الحياة
أشحت بوجهي بعيدا وألقيت بعقب السيجارة على الأرض وسحقته في حنق، كنت أريد أن يمر الوقت سريعا، فلم تعد اذناي قادرتان لا على سماع صوت المقرئ الأجش في تلك الليلة الباردة ولا على سماع ذلك الرجل الذي اخذ في الكذب وادعاء بطولات لم تحدث بينه وبين المرحوم.
...ففي جميع المآتم حتما يوجد هذا النوع من المعزين: من لا ينصت للقراءة ويمل سريعا فيبدأ في محاولة لفت انتباه الحضور الآخرين، بأي وسيلة مثل افتعال السعال أو الترحم بصوت عالي على المتوفى وما أن يلتفت إليه احد حتى يبدأ في الحديث ولا يكف مهما نظر اليه الآخرين أو مهما كان جلال الموقف أو ارتفاع صوت المقرئ.
وفي الحقيقة لم تكن هناك صلة قرابة بيني وبين المرحوم مجرد علاقة جيرة بسيطة اقرب للسطحية ولكن في فترة مرضه الاخيرة بدأت العلاقة تقوي بعض الشيء منذ أن تعثر في السوق القريب والتقيته مصادفه واصطحبته إلى المنزل، تدهورت حالته في الشهرين الأخيرين ونظرا لأنه مقطوع من شجرة على حد قول زوجته فقد كان تواجدي معه أثناء زيارات الطبيب المنزلية ضرورة، حتى لا يكون هناك رجل غريب مع زوجته وبناته الثلاث : ثلاث فتيات، أكبرهن في سن الزواج والأخريات اصغر قليلا، نقص نصيبهن جميعا من الجمال ولكن زاد نصيبهن من التدين والأخلاق.
تطورت العلاقة أكثر فكنت أول من يتصلن به عندما يدخل في الغيبوبة وتطوعت بإحضار راتبه الشهري في ذلك الظرف الأصفر القميء الذي يحمل شعار المصلحة الحكومية العتيقة التي يعمل بها أول كل شهر، فقد استغل زملاؤه الفساد الحكومي في تلك المصلحة ولكن في الخير تلك المرة : فكانوا يوقعون له في دفتر الحضور والانصراف وتطوع طبيب المصلحة في تجديد الأجازة المرضية له وكان دوري هو استلام راتبه الشهري في ظرف مغلق كل شهر وتسليمه لزوجته كل ما اعرفه أنه كان موظفا على درجه وكيل وزارة هكذا قالت لي زوجته، كل ذلك ويأتي ذلك الرجل الكاذب ويدعي الإحسان والخير للرجل وبناته مستغلا أنه قد توفي إلى رحمة الله ولن يستطيع تكذيب تلك البطولة الكاذبة .
جاء الفرج في شكل خبطات خفيفة على كتفي، نظرت فوجدت طفلا دون العاشرة، اختفت من وجهه ملامح البراءة لتحل محلها اثار شرور وآثام الكبار: كلم طنط.
نظرت حيث أشار فإذا بصغري بنات المرحوم في مدخل العمارة تناديني، أسرعت اليها متوقعاً ما هو أسوأ، قالت على استحياء أن أنبوب البوتاجاز قد فرغ وعلى تغييره حتى يستطعن استكمال عمل الشاي والقهوة للمعزيات، صعدت درجات السلم سريعاً وانتظرتها حتى تخلي لي الطريق وتنحنحت قبل الدخول فهنا في الشقة الضيقة يوجد مكان العزاء للحريم ما أن دخلت حتى سمعت صوت طنين أشبه بطنين النحل يكاد أن يكون اعلى من صوت الكاسيت وصوت الشيخ محمد رفعت، فجميع المعزيات بلا استثناء، كن يتحدثن مع بعضهن البعض متجاهلين قراءة القران الكريم. دخلت مسرعاً الي حيث المطبخ، حمدا لله لم يكترث احد لدخولي، بحثت حولي فوجدت مفتاح الربط وقمت بتغيير الأنبوب وتجربته على مهل وبالفعل أصبح جاهزاً للاستخدام، التفت خارجا.
سمحت لي ستارة المطبخ برؤية أوضح للمشهد في الخارج: المعزيات مجموعة مختلفة من النسوة مختلفي الأعمار والمآرب والنوايا، وأن اشتركت معظمهن في شئ واحد شعرت به منذ الوهلة الأولي لدخولي: لم يكترث أكثرهن بالزوجة المكلومة في زوجها، كان الجميع يعاملنها وكأنها إحدى خادمات الدار بعد أن تحول العزاء النسوي إلى نادي للسمر، شردت بذهني قليلا في سبب ذلك الإجماع الغريب: كن جميعا يعاملنها بجفاء ولعل السبب هو هيئتها الرثة: فهي امرأة بسيطة الشكل والتفكير قد لا تلتفت اليها كثيرا، ذات نهدين صغيرين ومتهدلين وملتصقين في البطن لدرجه أن الناظر اليها قد يظن أنها امرأة بدون ثديين وجسدها اقرب لجسد الرجال نحيلة لا يكسوها ما يكسوا باقي النساء من تدويرات الأنوثة، ذات حاجبين كثيفين وملامح باهته، أقد يكون ذلك هو السبب؟ أم لأنها عاشت طوال تلك السنوات في حالة من العزلة التامة عن الآخرين والقيل والقال؟ ام لأنها متواضعة الحال ماديا؟ أم لقلة الأهل والعزوة؟
لم أجد إجابة شافية نظرت لقطيع الإناث وبالطبع كانت هناك الفئات الأساسية في كل عزاء: من يأتين فقط لرد واجب سابق كنوع من إثبات الحضور والندية، ومن تأتي وتمكث فقط خمس دقائق تلوذ بعدها بالهرب لقضاء شؤونها سراً من وراء زوجها بحجة العزاء، وهناك فئة أخرى تأتي فقط لإشباع غريزة أساسية لديهن : الفضول وهتك ستر البيوت، رؤية المنزل من الداخل، حال المتوفي وأهله وجمع مواد لاستخدامها في جلسات الغيبة والنميمة بل من هن، من تتعمد دخول الحمام وباقي غرف المنزل بحجج مختلفة مثل الصلاة وغيرها فقط لإشباع ذلك الفضول وهناك صائدات "الجمعيات" اللائي يأتين فقط لتلك التجمعات لهدف واحد وهو التقاط أطراف الحديث وتكوين "جمعيات مادية" جديدة وترتيب ادوار من ستقبض الجمعية أولا دون حرج ودون تأثر برهبة الموت أو المأتم أو هيبة قراءة القران، لم تختف أيضا الفئة الأخطر وهم صائدي العرائس: يوزن بأعينهن ويقيمن بنات الدار والمعزيات ويفرزونهن وفقا لمعايير خاصة، عثرت على اثنتين منهنَ يتحدثن بمزيج من لغة العيون بالإضافة إلى لغة أخرى مشفرة تذكرت صديقي الصائغٍ عندما كان يوجه أوامره لصبيان المحل بلغه الصياغ اليهود بالا يضيعون الوقت مع ذلك الزبون لأنه لا فائدة منه:
- الدفش اللي في شلخا فقسه.
- حمشه هيحزي.
- اشتري كفت بار، إشتقاله، ذهوف ما يحزي.
يقابل تلك الفئة الباحثات عن العرسان وسط تجمعات الحريم : فمنهن من تأتي لاستعراض مفاتنها سواء قولا أو فعلا كإظهار ما يملكن من صيغه ونقود أو وظائف أو جمال كأن تجلس كاشفة عن ساقيها أو شعرها أوقد تفتح أزرار قميصها العلوية، بحجه حرارة الجو أو قد تحضر إلي المأتم بملابس ملونة فقط لإثبات الاختلاف وهن يعرفن تماما أن هناك من ستجتذبها تلك المقاييس وتدفعها دفعاً للتحدث معهن في شأن العريس والزواج بعد أن تكون قد عاينت البضاعة، بالشكل الكافي وقد تتم الصفقة في نفس اليوم!! وهناك الكاذبات المدعيات، بدءاً من إدعاء وجاهه اجتماعيه كاذبة أو ادعاء وجود الزوج الحنون أو حتى الحمش المفتري ذو البطش وأن كانت الحقيقة على عكس ذلك تماماً بل منهن من تدعي صغر السن الى حد الكذب وإدعاء وجود ذلك ضيف الشهري الذي يزور النساء فيمنعهن من الصلاة وقراءة القرآن لمدة أسبوع أو أكثر وقد تكون الحقيقة عكس ذلك وأن ذلك الزائر قد هجر تلك المرأة منذ سنوات بعيدة. ولكن آفة اللسان الكذب، وآخر فئة هن مدعيات الورع الكاذب، فقد تتزعم امرأة مجموعة من النساء ويصلين جماعه وسط ذلك التجمع الحريمي دون اكتراث بما يحدثنه من إرباك لأهل البيت والمعزيات.
وأفقت من شرودي عندما توقف شريط الكاسيت فجأة وتعالت الكلمات في مزيج شيطاني عجيب:
- لا ما ينفعوش يا شيخة مش شايفة شكل البيت.
- وحياتك لأرجعها البلد حافيه زي ما جت.
- رحت، كشفت لاقيته كيس عالمبيض.
- دول ياكلوا طقه ويجوعوا عشرة بلا فقر.
- والله البيت بيصرف ما يستنوف عن 3 تلاف جنيه في الشهر.
صرخت احداهن شغلوا القرآن ياجماعه رحمه ونور !!!!
أسرعت الزوجة المكلومة بإعادة تشغيل الكاسيت في ذهول كانت تعلوا وجهها علامات وجوم غريبة وبدت كمن تكابد آلاماً رهيبة وتحتمي بالمعزين وبخدمتهن وتقديم المشروبات لهن وكأنه فرح وليس مأتماً، من شئ آخر دفين .
تركت المنزل ونزلت لحضور الربع الأخير في مأتم الرجال وأنا شارد الذهن.
- مالم تعرفه هؤلاء النسوة في مساء تلك الليلة أن الثلاث فتيات كن قد تعاهدن على قراءة القرآن كله على روح والدهن، كل فتاة عشرة اجزاء وتجمعن كل تحمل مصحفها في احدي الغرف وأن شردن في وجوم وحزن دفين، دخلت عليهن الأم وقد نالت منها نظرات الإحتقار والتشفي وطعنات النساء المعزيات، نزفت روحها وكرامتها داخلها، انهارت واجهشت بالبكاء وهي ترتمي في أحضان بناتها قائله، استحلفكن بالله لا ترموني في الشارع كما قالت عمتكن ليس لي غيركن والله مافي ورث ولا مليم سابه ابوكم.
مالم تعرفه هؤلاء النسوة أيضا: أنه بحكمهن القاسي على تلك الفتيات بانهن فقيرات دميمات لا يصلحن لفتح البيوت : فقد حكمن عليهن بالعنوسة لسنوات طوال.
ولم يعرفن أيضا أن تلك الزوجة ليست ام الفتيات وإنما زوجة أبيهم استقدمها من الريف بعد أن ترمل وتزوجها لسنوات طوال لرعاية بناته الصغيرات.
مالم يعرفنه أيضا أن الذنب الوحيد الذي اقترفته تلك الزوجة هوالكذب وادعاء أن زوجها الراحل على درجه وكيل وزارة فقط لحفظ ماء الوجه أمام الجيران، لعل الله أن يرسل لبناتها عريس مقتدر على حس تلك السمعة الجيدة والمنصب الهام، مالم يعرفنه أيضا أن المرحوم كان موظفا بسيطا، في هيئة حكومية متهالكة، لم يترك ورثا ولا ميراثا قد تبحث عنه تلك الأخت التي أتت من البلدة الساحلية البعيدة فقط للمشاركة في ذلك الورث المزعوم .
اعتذر للإطالة وأي تشابه بين الأحداث والواقع هو تشابه مقصود.
تعليقات