غوص في رواية "بروكلين هايتس" – ميرال الطحاوي
غوص في رواية "بروكلين هايتس" – ميرال الطحاوي |
في البداية، شدنى اسم الرواية (بروكلين هايتس) Brooklyn Heights لكي أقرأها من بين مؤلفات الكاتبة ميرال الطحاوي، لولعي السابق بالروايات التي تجري أحداثها في بلاد المهجر، فهي لها مذاق خاص بالنسبة لي، فحين تقرأ عنوان الرواية تتخيل أنك ستغوص في رواية من أدب الرحلات والتجوال والتطواف في ربوع أمريكا الفاتنة المرغوبة من كل البشر، إلا أنك سرعان ما تكتشف أنها رحلة في داخل الذات، معرض صور لشخصيات من لحمٍ ودمٍ مرت بحياة البطلة، رحلة بتلافيف عقل وأحاسيس "هند" القادمة من ريف مصر إلى بروكلين، نيويورك في بدايات حقبة الرئيس الأمريكي (أوباما) .
كل فصل من فصول الرواية يبدأ باسم شارع من شوارع بروكلين نيويورك، وهو أمر وجد له جاذبية كبرى بالنسبة لي! ....شارع فلات بوش – باي ريدج (حي العرب الشهير في نيويورك) – المقبرة الخضراء (جرين وود) –ويندسور تراس – كوكو بار – coco bar (الذي لا اعلم إن كان مكاناً حقيقياً) - أتلانتك أفنيو – فالتون ستريت (حيث وكالة غوث اللاجئين) – بروسبكت بارك – جسر بروكلين بريدج . ولقد دفعني ذكر تلك الشوارع والأماكن إلى البحث عنها على اليوتيوب في فئة فيديوهات المشي الافتراضي – حيث يتجول صاحب الفيديو بكاميرته بدون أن ينبس ببنت شفة وكأنه يأخذ المتفرج مشياً في هذا المكان – وفي الحقيقة هي فيديوهات ذات جاذبية كبيرة بالنسبة لي، حيث تتيح لي الفرجة على بلاد الله وخلق الله بدون أن أبرح كنبتي!
حري بنا أن نصنّف رواية "بروكلين هايتس" ضمن أدب الرحلات، فهي في الحقيقة رحلة داخلية وخارجية في نفس وعقل كيان "هند" التي تارة ما تكون خارجية في شارع أو مكان ما بمدينة نيويورك أو شخصية ما تلمس عندها سيلاً من الذكريات التي تهيج في عقلها ونفسها ومن ثم تهدأ وتعاود وجودها في الحاضر لبرهة قصيرة لا تلبث أن تنطلق إلى آفاق الماضي الذي ألفته وهربت منه.
إنها رحلة داخلية في ذكريات عقل امرأة تعاني من الوحدة في غربتها في أمريكا حيث الرحلة الداخلية أقوى من محيطها الخارجي – كلما رأت شيئاً أو حادثت أحداً يطلق هذا الأمر ذكرى من ماضيها البعيد أو القريب لتأخذنا بها في "فلاش باك"
وكأن الكاتبة، الأستاذة ميرال الطحاوي، نسّاج ماهر يجمع بساطين بخيط زجزاجي يخرج من طرف بساط الحاضر إلى طرف بساط الماضي ليلتحمان معاً في بساط متناغم كبير يجمع بين الماضي والحاضر؛ وكأننا نركب في قطار الذكريات حيث محطات تمر بها الشخصية؛ وكأنك تسير على شريط قطار ، تارة تمشي على القضيب الأيمن ثم تقفز لتسير نفس المسافة أو المدة على القضيب الأيسر في تبادل راقص بين الماضي والحاضر.
ولكن المساحة الأكبر هي الماضي فالماضي هو السيد الحاضر دوماً والحاضر مجرد "زناد" يطلق رصاصة الماضي لتستقر في أي اتجاه شاءت. إنه الاستغراق التام في هموم الذاتى وذكرياتها الآسرة التي تمنعها من عيش الحاضر أو الارتباط به وإنما هي تنظر وتراقب ولا تنخرط في واقعها حتى بعد أن حاولت.
رسم الشخصيات
تتمتع الأستاذة ميرال الطحاوي بقدرة فذة على رسم التفاصيل الدقيقة للشخصيات المتعددة – بنات ونساء – رجالاً وشيوخا وعجائز – إنها فنانة محترفة في رسم تفاصيل الشخصيات المتفردة التي يصعب نسيانها وبالذات شخصيات البنات زميلات هند في الدراسة في مراحل البلوغ – وشخصية الخياطة وشخصية الوالد صاحب المضيفة - ولعل أبرز الشخصيات في رأيي هي شخصية جدتها (الضيفة) التي تضوع روائح مضيفتها بالصابون النابلسي وأوراق النعناع والكافور، حتى أننا في النهاية نرى (حبل غسيل) شاهد على العصور يروي لنا الأحداث كشاهد على العصور المتعاقبة التي مرت على تلك الأسرة وشهد أيام العزة والذلة!
- شخصية الجدة زينب – خادمة البيت الكبير في قريتها – في مقابل شخصية (إيمليا) الروسية وهما الشخصيتان الرئيستان في مشهد ختام الرواية
- شخصية الأب صاحب المضيفة وشلة الأنس التي تسهر معه في مضيفة أمه الجدة (الضيفة) – يتلذذ بشرب البيرة وهو يحكي قصص الأنبياء ويلقى الآيات القرآنية على مسامع الحاضرين.
زميلات الدراسة أثناء الطفولة:
- أنجيل البنت المسيحية الطيبة التي كانت تحاول اجتذابها.
- نُهى بنت محمود البقال – التي تمتعت بلعب الحجلة مما جلب لها المتاعب، ووصفها البذيء المهتاج لمحتويات الفاخورة في أوج فورانها في بدايات البلوغ
- حنان – بنت الخياطة ولعبها بالقماش – وافتتان مدرس العربية بها
- أم حنان الخياطة التي تهوى الغناء – وتغير نشاطها التجاري مع الانفتاح
- مدرس اللغة العربية والتحولات التي جرت عليه
- شخصية إيمليا الروسية العجوز (بائعة الأحذية المستعملة)
- نزاهات الطبيبة البوسنية ذات السبع صنائع!
- سعيد – القبطي المصري
- عبد الكريم الكردي
- ليليت المصرية العجوز – التي توحدت معها هند رغم أنها لم ترها
- تشارلي معلم الرقص – الذي كادت أن تدخل معه في علاقة
- نجيب الخليلي وافتتانه بليليت العجوز التي تعاني من خرف الشيخوخة وانحسار الذاكرة؛ وصديق عمره ناراك الأرمني صاحب محل الشطرنج وأدواته
- زميلتها بالعمل الصومالية – فاطيما التي على استعداد لتفعل أي شيء لتصل إلى حلمها الشخصي.
الرواية رائعة في جزئيات رسم الشخصيات التي لا تنسى، والفلاش باك، ودقة النسج بين الماضي والحاضر في بساط واحد متجانس لا يرهق القارئ ولا يضيع خط أفكاره. السلاسة تتجسد في السرد واحترافية من الكاتبة الأستاذة ميرال في رسم الموقف واستدعاء الموقف الموازي له في الماضي بأحداث وشخصيات أماكن، ومن ثم القفز مرة أخرى على قارب الحاضر عائدين قبل أن يتحرك من رصيف الزمن.
شخصية هند – البطلة الإشكالية
إن شخصية "هند" هي شخصية إشكالية من الطراز الأول – فكر في شخصية هاملت لو أحببت مثالا على الشخصيات الإشكالية - ، فهي المتطلعة، موفورة الطاقة، سيئة الحظ المغرقة في السوداوية والاكتئاب المطول والإنكفاء على الذات رغم تغيير البلد والقارة بأكملها وبرغم دخولها عالم جديد كان ينبغي أن نرى في هند تغييراً يسعد القارئ ويريح نفسه! وبدلا من ذلك لا نرى توحداً مع شخصية "ليليت" الضائعة رغم أنها لم ترها – مجرد قصاصات ورسومات لم تكتمل وجدت فيها تشابه بينها وبين ذاتها.
إنها المكبلة بأمومتها التي تشكل ثقلاً كبيرا وحجرا يجثم على صدرها الذي لا يزال ينز كلما ضاقت بها الأمور.
تؤمن بتأثير الكواكب والأبراج على حياتها ولا تفتأ تذكرها، وتلك الأوهام التي يعلق عليها العجزة معاطف عجزهم.
رأت في الهجرة حل لما هي فيه من اكتئاب وعدم رضا عن كل شيء، وكان المفترض أن يمنحها الواقع الجديد تلك الحرية وخفة العقل والروح في مجتمع مفتوح، تحقق فيه ذاتها من الاشتغال بالكتابة والفن وما إلى ذلك، ولم نر سوى العجز عن تحقيق شيء من الأفكار التي تعربد برأسها. ولم نرى اقتناصاً للحرية المنشودة سوى كوباً من البيرة تشربها في البار أسفل شقتها وسيجارة تشعلها أينما شاءت!
ولقد مرت كل الفصول على خير وكنا نتوقع أن يكون الفصل الأخير نقلة في حياتها أو نرى تغييرا في منحى الخط البياني المتصاعد نحو الهاوية. الواقع حينما تقرأ الفصل الأخير من الرواية (فصل البرد) وماذكر فيها من "رياح الحنين" التي تقبض أرواح الموتى مؤذنة بالنهايات، والتوحد مع نهاية "ليليت" التي تقترح الكاتبة ضمنياً أن مصير ونهاية ليليت ستكون هي نهاية هند.
ونختتم المشهد الأخير بمعاودة كابوس الحاجة زينب التي حبستها مع الأرانب التي تقضم شعرها وتبلل سروالها تماما كما كانت تفعل من الخوف وهي صغيرة.
إنه ختام كارثي محبط لتلك الرواية التي كانت من المفترض أن تبث في نفوسنا الأمل بالخلاص والتغيير والعالم الجديد لكل من يحلم بالهجرة إلى بلاد الله الواسعة متخففاً من أثقال الماضي وحبائله.
موجز القصة
تنتقل "هند" وابنها البالغ من العمر 8 سنوات إلى شارع فلاتبوش في بروكلين هايتس، بروكلين. في محاولة للهروب من زواجها الفاشل والقيود المفروضة على أسرتها. تجمع القصة بين هند وابنها ومواقفهما تجاه الولايات المتحدة. وبينما يذكرها كل شيء حول هند بوطنها، يشعر ابنها بالارتياح مع الثقافة الأمريكية. انتقلت هند إلى بروكلين بالتأشيرة التي ورثتها عن زوجها. تحلم بأن تصبح كاتبة، ولكنها بدلاً من ذلك تجد وظيفة في دانكن دونتس في أقدم حي للمهاجرين العرب الأمريكيين، "خليج بروكلين". تأخذ دروسًا في اللغة الإنجليزية ليلاً، على أمل العثور على وظيفة محترمة، مثل رسامة أو كاتبة أو ممثلة. تتلقى هند دروسًا في رقصة التانغو على يد رجل أمريكي في شقتها وتواعده عدة مرات، لكنه سرعان ما ينتقل إلى إحدى صديقاتها التي تقضي معه الليالي. صداقاتها مع النساء قصيرة بنفس القدر. تقرأ الشعر – الذي لم تكتبه - لزياد، وهو خباز فلسطيني يحلم بصناعة أفلام الأمريكية الكبيرة مثل Pulp Fiction. أخيرًا، تحقق حلمهما. قام بتصوير فيلم قصير عن عائلة عربية مهاجرة، حيث تلعب هند دور الأم وإن كانت تكره هذا الدور وكانت تريد أن تكون هي البطلة المتمردة بدلاً من الأهم المقهورة.
ثم نهاية مفتوحة.
إعداد: المنسي
للمراسلة: enbee.info@gmail.com
تعليقات