الجنازة حارة والميت طفل
زاد اشتياقي إليها كثيرا هذه المرة، فلمدة تقترب من العام لم تر عيني شباك مقصورة حبيبتي وعشقي و هيامي ومكمن راحتي ، فعلي أعتابها اخلع عباءة الهموم وارتدي رداء الراحة ، تتساقط العبرات وتنصهر الزفرات وتنقشع غيوم الحزن لتحل محلها نسمات الأمل والفرح و الإحساس الذي لا يوصف بغسل الذنوب وغفران الخطايا ، لما لا وحبيبتي ومنبع الحب في قلبي هي حفيدة رسول الله نفيسة العلم و المعرفة السيدة نفيسة رضي الله عنها و أرضاها.
ولقد تعودت علي زيارة ضريحها و مقامها كل عام ولكن هذا العام لم استطع زيارتها ،حني شارف العام علي الانتهاء ، وعلي الرغم من أنني من مواليد القاهرة مدينه الألف مئذنة ، فلقد استوطنت احدى المدن الساحلية علي ساحل البحر الأحمر منذ ما يقرب من العشرون عاما، تباعدت خلالها عدد مرات زياراتي للقاهرة ،إلي الحد الذي نسيت فيه معظم شوارعها والاتجاهات به. تماما كالغرباء عنها.
انتهيت سريعا من مشوار بسيط لي و كما هو مقرر سلفا فلقد سألت ناظر محطة الحافلات عن اقرب نقطه لمسجد السيدة نفيسة: فرد ببرود عجيب :
- اركب للسيدة عيشة اتمشي دي حته صغيرة و انت لسة صغير....!!!
لم اعرف حقيقة، ما هي المسافة التي يتوجب علي سيرها بما أنني (لسه صغير!!) ولكني سجلت في عقلي ضرورة تذكر أن أترجل من الحافلة عند مسجد السيدة عائشة.. انطلقت الحافلة كنت مستمتعا بالطريق رغم الزحام و بالطبع صاحبت الرحلة جميع مشتملاتها الفلكلورية ، من باعه جائلين يصعدون للحافلة و يغادرون و لكل منهم أسلوبه في البيع و شخصيته المستقلة منهم ثقيل الظل و منهم خفيف الدم ومنهم من تتعاطف معها و مع ضعفها فتشتري منها بغرض المساعدة فقط و ليس بدافع الاحتياج لما تقوم ببيعه و منهم من تشيح بوجهك عنه لعدم اقتناعك به أو ببضاعته أو بأسلوبه و لما انسي نفسي فقد اشتريت: "كوز ذرة " مشوي ساخن و حلو المذاق . واصلت الحافلة القديمة رحلتها كامرأة عجوز اخذ منها الزمان أكثر مما أعطاها فاحني ظهرها و أبطأ حركتها.
ما أن وصلت إلي محطة مسجد السيدة عائشة رضي الله عنها حتى ترجلت سريعا من الحافلة . و بحثت وسط المارة عمن يمكنني الوثوق به و سؤاله عن الطريق فالزحام كان شديدا و امتزجت كافه أنواع و أشكال و أحجام و أجناس المارة في ذلك الميدان. سألت احد الباعة الجائلين عن كيفية الوصول لمسجد السيدة نفيسة من هناك:
سحب نفساً من سيجارة محليه وتكلم بأسنان مهترئه وامتزج صوته الأجش بأنفاس سيجارته الرديئة:
-امشي جمب الصور ده للآخر هتلاقي حارة هتخش فيها وتمشي وسط الطرب .. لغاية...
لم اعرف أن الطريق القصير بين مسجد السيدة عائشة و مسجد السيدة نفيسه سيكون بين المقابر و حقيقة في تلك البقعة لم اعثر علي اي سيارة أجرة و لم أحبذ الفكرة أيضا فسيارة أجرة داخل المقابر هي وسيلة ملائمة للاختطاف و السرقة .
فعلا مشيت إلي آخر السور و هي مسافة كبيرة نسبيا لم أقابل إنسانا واحدا خلالها و لم يكسر رتابة السور إلا بوابه حديديه صدئة يكسوها لون اخضر باهت نظرت من خلال الباب الحديدي فرئيت و علي مرمي البصر شواهد قبور وآلاف المقابر بينها مدق ضيق خلعت ساعة يدي و أخرجت الجزء الأكبر من النقود و خبأتهما بحرص داخل كتاب صغير كان بداخل حقيبة الظهر التي احملها تحسباً للظروف فقد اضطر إلي مواجه احد اللصوص داخل المقابر فاضطر لإعطائه ذلك المبلغ من المال كخسارة بسيطة قد تكون ثمناً لإنقاذ حياتي.
سميت اسم الله و بدأت قراءة القران و خطوت أولي خطواتي في ذلك المدق المتعرج، و الغريب انك لا تستطيع مشاهده منعطفاته فقط تجد نفسك تنحرف معه يمنهً و يسرةً.صبار قديم وصل إلي حد اللهاث من شدة العطش، كلاب ضالة ،مقابر ضيقة جدا تتعجب كيف يدفنون الموتى بها من ضيق مساحتها مرورا بمقابر هي أفخم ما يكون: رخام وكتابات زخرفيه مذهبة تجاورها مقابر تحمل أسماء عائلات شهيرة و مقابر أخري مهجورة لا يعرف أصحابها طمست أسمائهم ونهبت عظامهم ،استطعت تمييز بعض المقابر المفتوحة و المنهوبة، تمنيت لو انتهي ذلك المدق ،انحرف بي المدق إلي مساحه أضيق من أن يعبر بها شخصين متجاورين و شاهدت علي بعد مترين فقط شخصا لأول مرة شاهدته فقط من خلفه و كان يحمل فأساً .. عرفت انه "تربي" رفعت صوتي قائلا ً:
- السلام عليكم
التفت الي التربي كان وجهه مغبرا بالتراب حفر فيه الزمن أخاديد و خطوطاً متداخلة و عجيبة و كأنها كتابات شيطانيه و ليست تجاعيد .
- وعليكم السلام
- بعد إذنك عايز اروح مسجد السيدة نفيسه...
- انت توهت ولا ايه ؟؟ طب بص كمل علي طول و لف الجاي شمال لغاية ما توصل لحارة السيدة نفيسة.
فعلا شعرت أنني قد فقد الاتجاه الصحيح فجميع المقابر تشبه بعضها البعض، تملكني الخوف و الوحشه ليس من الموتى، فالموتى لا خوف منهم و لكن الخوف من الأحياء طردت من راسي جميع الأفكار المرعبة و ما قرأته او سمعته عن الجرائم البشعة التي تطالعنا بها الصحف بين الحين و الأخر .كان على البدء من جديد و فعلا سرت بسرعة اكبر رغم شعوري بالتعب و الإنهاك و العطش حتى بدأت ملامح لبيوت سكنية تلوح من بعيد حمدت الله تعالي .
عجيب ذلك الموت الذي يسوي بين الغني و الفقير و اللص و الشريف فالغني يستطيع في الدنيا أن يسكن داخل "كومبوند" فاخر بعيدا عن الفقراء ويستطيع ألا يمتزج أو يحتك بهم طوال حياته لكنه لن يستطيع بعد موته أن يمنع وجود مقبرة لإنسان فقير بجوار مقبرته فلا توجد مقابر للفقراء و أخري للأغنياء...
أفقت من شرود ذهني و تأملاتي علي مشهد لخيال فتاة قادمة من بعيد كان سنها يقارب السابعة عشر او الثامنة عشر عاما ، ترتدي زيا مدرسيا قميصا وردي اللون و جونلة زرقاء و تحمل كتبها في يديها و تمشي بهدوء و اطمئنان و يحمل وجهها قدرا كبيرا من الجمال، كنت اعرف انه يبدو علي انني غريب عن المكان و ترددت كثيرا في سؤالها عن الطريق باعتبارها فتاة و انا رجل شارفت علي الأربعين عاماً ..فهي منطقة شعبيه لها قوانينها التي يجب احترامها ، ولكن لدهشتي لم أجد في الحارة غيرها من المارة و لا يوجد محل، او احد جالس وكأنها مدينة الأشباح علي يمين الحارة مجموعه من المنازل القديمة جداً و علي اليسار صف آخر من المقابر.سألتها:
- بعد إذنك اروح مسجد السيدة نفيسه ازاي؟؟؟
- ردت بتلقائية غريبة و ابتسامه ودوده و كأنها كانت تنتظر السؤال:
- هي دي الحارة كمل علي طول هتلاقي الجامع في وشك ، شكرتها و انطلقت هي مستكملة طريقها في وداعه، كالظبية الآمنة ، وكأنه لا يشغل بالها أو يقلقها أنها تسير مجاورة لمقابر معظمها متهدم ومتهرئ.
واصلت السير حتى لاحت في الأفق مئذنة المسجد وبدا القلب بخفق بعنف و فرحه فبعد لحظات سأكون داخل المسجد مستأنسا بصاحبة المقام و الحضرة الشريفة.
خلعت حذائي و أعطيته لمسئول حفظ الأحذية و دخلت إلي مكان الوضوء توضأت و توجهت بعدها للمسجد لأصلي و أقرأ القران كما هي العادة قبل أن ازور المقام الطاهر .. لفت نظري وجود قماش ابيض موضوع بجوار الحائط و مطوي بعناية .. خمنت انه كفن أهداة احدهم لإدارة المسجد علي سبيل الصدقة.
وبعد انتهائي من طقوسي ذهبت إلى مكان المقام الطاهر، دعوت الله بما شئت وشاء الله و فتح علي به، عدت أدراجي لحضور صلاة ألجماعه بعدها بدا توافد الجنازات المختلفة علي المسجد ليقام عليها صلاة الجنازة نظرا لقرب المسجد من المقابر . و كالعادة تم تجميع المتوفين معا في صلاة مجمعه، جاءت جنازة لرجل ثم لامرأة:
بعد صلاة العصر أعلن إمام المسجد أن صلاة الجنازة ستكون علي رجل و امرأة و طفل و شرح أن الدعاء للرجل و المرأة سيكون بصيغة المثني مثل "اللهم ارحمهما" أما بالنسبة للطفل فيكون الدعاء لأبويه بالأكثرية
:" ان يجعله شفيعا لهم في الآخرة وان يبدلهما خيرا منه و يصبر قلبيهما".
صلي المصلون بخشوع و كل قد اخلص في الدعاء وانأ معهم ..وبعد الصلاة جاء أهل المرأة و حملوا النعش و انطلقوا بها ثم هم أهل الرجل بحمل النعش لفت نظري ان النعش بدون غطاء . صاح اكبر أبناء المتوفى:
- استني ياعم هتشيلو ايه الطفل ده منعرفش عنه حاجه؟؟؟!؟! ايه اللي حطه جنب ابوبا؟؟؟
انطلقت مسرعا في اتجاه النعش وبالفعل شاهدت نفس الكفن الذي رأيته عندما دخلت إلي المسجد بجوار المتوفى في نفس النعش؟؟
كان حجمه اصغر من حجم الطفل الرضيع.. صغير جدا لدرجه اعتقدت معها انه فقط قطعه قماش؟؟
امسك إمام المسجد بالمذياع و صاح: أب الطفل المتوفى يحضر فورا عند المحراب؟؟
لم يأت أي احد....
كرر مرة أخرى لم يأت احد...
سادت فترة صمت توقف معها الزمان ، هم احدهم بحمل النعش مرة اخرى، صاح الابن:
- استني ياعم انا لا اعرف ايه ده و لا فتحناه و لا حتى معانا تصريح بدفنه...
تكررت النداءات في المذياع
علت بعدها الأصوات وتداخلت :
- ده تلاقيه من حمل سفاح.
- لا ده سقط.. مولود سقط.
- صاح احدهم: في واحده ست جابته الصبح و مشيت و منعرفش عنها حاجه
- صاح احدهم: سيبها علي الله إكرام الميت دفنه، توكلنا علي الله و حملوا النعش بما فيه من الرجل العجوز و الطفل الذي قد يكون فعلا حملا غير مكتمل او غيره...
لم اعرف بعدها مصير الطفل و لكن لابد و ان الشهامة قد انتصرت فتم دفنه بجوار الرجل.
ما أن عدت إلي منزلي بدأت في البحث و القراءة عن حكم الصلاة علي (السقط) غير مكتمل النمو و عرفت الكثير : فلو ان الوفاة حدثت قبل خلق الروح فلا يصلي عليه و لا يكفن بل يدفن كما هو وربما تم لفه في قطعه بسيطة من القماش، اما لو أجهض الجنين بعد نفخ الروح و اكتمال خلقه اي بعد الشهر الرابع فيغسل و يكفن و يصلي عليه بل و تجري عليه أحكام الميراث أيضا و اذا ما كان الإجهاض عن عمد من جانب الأم مثلاً في حاله الحمل غير المرغوب فيه مثلا فعليها دفع "الديه" لأهل هذا الجنين سواء أكان الزوج أو الأعمام واسترضائهم و"الديه" في تلك الحالة تسمي "الغرة" و هي تبلغ عُشر دية الرجل البالغ معلقه في رقبه المرأة إلا أن يعفيها أهل الطفل..
لفترة طويلة فكرت كثيراً في أم ذلك الطفل: هل هو من سفاح كما قال ذلك الشيطان الآدمي؟؟ أم هي أم ثكلى وفقيرة ولا تملك مقبرة، ففكرت في تلك الفكرة لدفن طفلها؟؟
لم يعد يشغلني ذلك كثيرا :فلقد صلي ما يقرب من ألف شخص صلاة الجنازة علي ذلك الطفل و نالها هي ووالده الكثير من الدعاء بإخلاص ربما سيكون في ذلك العوض لها عنه في الدنيا والآخرة.وربما كان كل ذلك بترتيب الهي ليتم دفن ذلك الطفل دفنا شرعيا في مقبرة ويتم الصلاة علي الصلاة اللائقة. تمت
علق وشارك
تعليقات